أثر الرحالين في التقدم العلمي والحضاري
رقم التسجيلة | 7563 |
نوع المادة | مقالة |
المؤلفون | كامان، ماكَامان |
العنوان | أثر الرحالين في التقدم العلمي والحضاري |
المستخلص |
اهتم الباحثون بفن الرحلة ودرسوا مكانته بين العلوم الإنسانية ودوره في الكشف عن التأثير والتأثر في حياة الإنسان ومعرفة أرضه وتتبعوا نشأته وتطوره إلى أن أصبح مستقلا بالتأليف، وتعرفوا على رواده الأوائل الذين شدوا الرحال إلى مختلف بقاع العالم منقبين ومبشرين وحاملين مشعل المعرفة. وحسب الباحث أن يقف من خلال مؤلفاتهم على دورهم العلمي المتميز بالمصداقية والاجتهاد والجمع بين مختلف المعارف والمهام[1]. وتقديرا لأهمية هذا الفن، فقد دخل مصطلح الرحلة المعاجم والموسوعات، فعرفوا بالرحلة لغة واصطلاحا وفرقوا بين رائها المكسورة والمضمومة، فعنوا بالحالة الأولى الانتقال والارتحال وأرادوا بالثانية الوجهة التي يقصدها المسافر. وتوسعوا في تعدد معانيها التي تشمل الهجرة ومذكرة السفر. وأطلقوها لقبا لتشريف الفضلاء والعلماء. وأشاروا إلى اشتقاقاتها مرفوقة بأمثلة من مأثور الكلام[2]. ورأوا فيها مجمعا لعدة فنون محكومة بالنسيج السردي المطبوع ببراعة الانتقال بين المحاور التي تضمنها التأليف حيث برهن الرحالون عن مواكبتهم لحركة التدوين والظروف التاريخية التي عاصروها أو قاموا بأسفارهم خلالها[3]، فاستفادوا من الحوافز المشجعة لانتشار الرحلات المتنوعة، واستجابوا لتعطش القراء لمعرفة أحوال البلدان وسكانها، فدونوا مذكراتهم التي لقيت إقبالا من طرف الفئات الثلاث من مجتمعهم وهي : - فئة الحكام -الفئة الخاصة- الفئة العامة. وإيمانا منهم بنشر المعرفة بذلوا جهودهم في خدمة الأدب الجغرافي وتقريب الحضارات وترويض الخيال علّه يأتي بإنتاج مفيد في مجال العلوم الانسانية والاكتشافات الجغرافية، فرفعوا شأن الحركة العلمية وصدقوا في عملهم واهتموا بالإنسان في سلوكه ومعاشه وآدابه وتعلقه بأرضه وظواهر بيئته الطبيعية والبشرية[4] فقادهم شوق المعرفة إلى الاجتهاد والتحقيق في مجال المسالك والممالك القريبة أو البعيدة، فتوغلوا بعقولهم في مختلف الأقطار متأملين وباحثين ولبسوا لكل مكان وزمان لبوسه. ولما كان ولوج الأراضي وعبورها يقتضي معرفة طرقها ووصف حالتها فقد دعتهم ضرورة ترحالهم لتحديد مسافاتها ومساحات أقاليمها ورصد مراحلها واستعمال المقاييس من برود وفراسخ وأميال للوقوف على أبعادها لخدمة علم تقويم البلدان، وباعتبار الأرض محورا بارزا في كتابتهم فقد بحثوا في تربتها وخيراتها وأنعامها حتى ليخيل إلى القارئ أنهم أهل حراثة ومغارسة وتربية المواشي، فحذقوا هذه الظواهر وتتبعوا منابع المياه ومجاريها وعذبها ومرها وحظيت باهتمامهم، فصححوا أخطاء من تقدمهم حول البلدان ومواقع منابع الأنهار فأضفوا على رحلتهم طابع الاحتراف العلمي بتصانيفهم التي تتقاسمها ثلاثة فنون منبثقة عن تنقلاتهم وهي : 1/ تقويم البلدان أو أدب المسالك. 2/ أدب الرحلة. 3/ كتب العجائب والغرائب[5]. فكانت هذه الفنون تتميز بخصائصها وأسلوبها وأهدافها وتكشف القناع عن أسماء الرحالين المبدعين والمجدين والصادقين وتفرق بينهم وبين المقلدين والناقلين والمتأديين. ولعل القراءة الجيدة لها توضح مصداقية صاحبها ومصادره ومنهجه وعطاءاته مهما كانت أصناف الرحلات المنطلقة من أحد العوامل المتعددة وأبرزها ما يلي[6]. 1/ العامل الأول : أداء فريضة الحج استجابة لقوله تعالى : "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا…"[7] ومنه قوله : "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات…."[8]، فكانت هذه المناسبة الدينية مجالا خصبا لتباري أقلام الرحالين العلماء وفرصة ثمينة للتعارف بين مختلف شرائح المجتمعات الإسلامية سواء عبر طريق الحاج أو في المدن المقدسة وهي مكة والمدينة المنورة وبيت المقدس[9]، ولعل أول رحلة حجية مدونة هي المنسوبة لابن جبير الأندلسي. 2/ العامل الثاني : الدعوة لنشر الاسلام أو مذهب فقهي أو نشاط الفرق الاسلامية، وهذا العامل غالبا ما يكتسي صبغة علمية وكان للمغاربة دور ريادي فيه، أذكر منه على الخصوص رحلة الدعاة الفاسيين من الأسرة الكتانية في أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل القرن التاسع نحو أندونيسيا لنشر الإسلام بإحدى جزرها. وسبق للباحث التونسي محمد الهاشمي أن كتب مقالا عنهم في مجلة الدهناء بتاريخ 13 و14 شتنبر 1929، قال فيه عن الأندونيسيين الذين أسلموا على يد هؤلاء المغاربة ما ملخصه : "دينهم الإسلام المنقول أواخر المائة الثامنة وأوائل القرن التاسع الهجري على يد طائفة من رجالات المغاربة من أسرة الكتاني الموجودة إلى اليوم بمراكش (يقصد المغرب) حسبما هو مكتوب ومنقوش على مشاهد ألواح المرمر فوق قبور أولائك الدعاة ولا تزال مائلة واضحة القراءة بخطوط بديعة. وهذه القبور تعرف حتى الآن عند الجاويين بقبور المغاربة"[10]. وفي رحلة ابن بطوطة يقف القارئ على أسماء مغاربة منهم من نشر الإسلام بجزيرة ذيبة المهل ( مالديف) وهذا الداعية هو الفقيه أبو البركات البربري، ووافانا باسم فقيه آخر هو قوام الدين السبتي الذي تولى منصب القضاء بالصين وذكر عدة أعلام آخرين التقى بهم في مختلف الأقطار المشرقية وغيرها من الإمارات الأسيوية. لقد حقق هؤلاء الدعاة التواصل مع الآخرين وتركوا تأثيرهم الحضاري خارج وطنهم[11]. 3/ العامل الثالث : الرغبة في طلب العلم، استجابة لدعوة الشارع إلى التعلم. ولعل أبرز رحلة في طلب العلم في القرن الثاني الهجري ما نسبه الربيع بن سليمان إلى شيخه الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 هـ ومما رواه عنه قوله : "وأقبلت أطوف العراق وأرض فارس وبلاد العجم وألقى الرجال حتى كتبت وأنا ابن إحدى وعشرين سنة"[12]. 4/ العامل الرابع : النشاط التجاري البري والبحري وما أسفر عنه من قصص غريبة وما خلفه من آثار حميدة على مستوى الثقافة بمعناها الشامل[13]. 5/ العامل الخامس : انتشار الفتوحات الإسلامية وربطها برغبة الحكام في معرفة البلدان التابعة لهم معرفة شاملة تساعدهم في ترتيب دواوينهم الإدارية والمالية وتأسيس المدن ووضع نظام الجباية من زكاة وخراج وجزية[14]. 6/ العامل السادس : الرغبة في اكتشاف الأماكن ومواقع البلدان والأنهار ووضع خرائطها وهذا العامل يذكر القارئ برحلة الفتْية المغرورين أو المغررين الذين خرجوا من لشبونة بالبرتغال أيام الحكم العربي بها لاكتشاف ما وراء بحر الظلمات وقيل بأنهم توقفوا بمركبهم في إحدى جزر الخالدات[15]. ونفس الرغبة في التطلع إلى ما وراء المحيط راودت الملاح المغربي ابن فاطمة، إلا أن سفينته غرقت قرب غانا[16]. ولعل هذه الرحلات الاستكشافية التي قام بها أهل الغرب الاسلامي حفزت الأوروبيين إلى التوغل نحو المحيط الأطلسي خلال القرون الوسطى. 7/ العامل السابع : ويتعلق بتبادل السفارات بين الدول الاسلامية أو بينهم وبين الدول الأجنبية وغالبا ما يسكت الرحالون عن الهدف الأساسي من سفارتهم ويكتفون بالإشارة إلى الرغبة في استمرار السلام والعلاقات الحسنة مع البلد المزور وعقد الصفقات التجارية[17]، وتحدثت كتب التاريخ عن العديد من السفراء ودورهم المتميز في الدفاع عن بلدانهم وتحديد مواقفهم من حضارة الآخر، وأسوق على سبيل المثال من الغرب الإسلامي والمغرب رحلة السفير الأندلسي يحيى بن الحكم الغزال إلى بلاد النورماند والقسطنطينية في منتصف القرن التاسع الميلادي، والسفير الثاني هو عبد الله بن العربي المعافري صحبة ابنه أبي بكر اللذين توجها إلى الخليفة العباسي ببغداد بعد موقعة الزلاقة، فخلف رحلته المعروفة بقانون التأويل، والسفير الثالث هو محمد بن عثمان المكناسي المتوفى سنة 1214 هـ وهو من كتاب الملك محمد بن عبد الله العلوي المتوفى سنة 1204هـ، وخلَّف ثلاث رحلات هي : (الإكسير في فكاك الأسير) والثانية تحمل عنوان : (البدر السافر) والثالثة سماها : (إحراز المعلى والرقيب). 8/ العامل الثامن : ويكتسي طابعا دينيا وروحيان ويتمثل في العباد والزهاد والوعاظ، ويعتبر أبو بكر الهروي المتوفى سنة 611هـ / 1215م أشهر الرحالين المختصين في المزارات المتبرك بها، وقد دون تنقلاته تحت عنوان : (الإشارات إلى معرفة الزيارات)، وهو دليل لزيارة الأضرحة والمقامات المشيدة في البلدان الإسلامية، ولا تخلو كتابته من إفادات جغرافية وتاريخية عن الأقاليم التي مر بها[18]. وأما المغاربة فلهم مشاركة بدورهم في مجال السياحة الدينية والدعوة للتربية الروحية في مختلف البلدان العربية والإسلامية، ومنهم من خلف مريديه وطلبته وطريقته الصوفية، ويأتي على رأسهم ـ على سبيل المثال ـ أبو الحسن الشاذلي دفين عيذاب بصعيد مصر وأحمد البدوي وأحمد الرفاعي وأحمد زروق دفين مصراته بليبيا. 9/ العامل التاسع : الخيال : دخل الأدباء بخيالهم في الرحلة لتمرير أفكار وقضايا أو طرح ظواهر تشغل بالهم. فهذه العوامل المذكورة أدت إلى التوسع في كتابة الرحلة وتصنيفها، فكان الرحالون على بينة من أهدافهم، و في مستوى علمي لكتابة رحلة مفيدة، وكان الحكام في طليعة المهتمين بتوظيف المعلومات والإفادات المستخلصة من كتابتهم في تدبير مخططاتهم السياسية والأمنية والاقتصادية والعمرانية متخذين من الأدب الجغرافي نبراسا لهم في رسم شؤون البلاد. ولعل الخليفة عمر بن الخطاب أول من اهتم بالتعرف على البلدان وتعميرها؛ حيث تحدث الإخباريون عن حديثه مع أحد مستشاريه في هذا المجال ورووا عنه قوله : "إنا أناس عرب وقد فتح الله علينا البلاد ونريد أن نتبوأ الأرض ونسكن الأمصار، فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره التربة في سكانها…"[19]. فمهمة الوصف لا يمكن أن يقوم بها إلا خبير كوَّنَه الترحال وأَكسبه معارف جغرافية وصفية. والحديث عن التمدن ومعرفة الأمصار والانتقال من البداوة إلى التحضر ومن سكنى الخيام إلى تأسيس العمران يعتبر من المواضيع التي طرقها الرحالون قديما وحديثا وأفادوا بها المجتمعات البشرية، فشاع بينها التأثير والتأثر والتابع والمتبوع وتلاقح الحضارات. ومن المؤكد أن العرب اهتموا بالظواهر الطبيعية قبل أن يعربوا الجغرافيا اليونانية بحكم تنقلاتهم داخل الجزيرة العربية ورحلاتهم الشتوية والصيفية وعلاقاتهم ووساطتهم التجارية بين المشرق الممثل في إيران والهند والصين وبين الغرب الممثل في سوريا ومصر وروما. ولم يكن طابع البداوة الفطري عائقا على الانفتاح على الآخر والاجتهاد في ضبط الطرق ومعرفة الأقاليم والممالك فاستعانوا في أسفارهم بالنظر إلى السماء للاهتداء بنجومها، وفحص الأرض للوقوف على نوع تربتها وخصبها أو فقرها وحرفة أهلها. وقد أشار عبد الله بن المقفع المتوفى سنة 142 هـ إلى المعلومات الجغرافية الفطرية التي حذقها العربي قبل عهد التدوين والتعريب فقال : "وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض فرسموا كل شيء بسمته ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه وأوقاته وأزمنته وما يصلح للشاة والبعير ثم نظروا إلى هذا الزمن واختلافه، فجعلوه ربيعا وصيفا ثم علموا أن شربهم من الماء فوصفوا لذلك الأنواء فجعلوها منازل من السنة واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض فجعلوا نجوم السماء أدلة على أطراف الأرض وأقطارها فسلكوا بها البلاد"[20]. ولعل معارفهم الفطرية هذه حببت إليهم البحث الجغرافي الوصفي في إطار حركة التدوين، فشدوا الرحلة مكتشفين ومصححين وباحثين عن كتب العلوم وكان بعضهم عرضة للمخاطر والمزالق، وقنع البعض الآخر بما وصل إليه من أخبار خارج وطنه. ويبدو أن نهاية القرن الثالث الهجري عرفت توضيح معالم الأدب الجغرافي وأن القرن الرابع فرض أسسها النقدية المشروطة بالرحلة وما صاحبها من اتصال بالناس والمشاهدة والسماع المباشر من ثقاة أهل البلد وتتبع مصنفات المتقدمين في هذا الشأن، وقد عبر الرحالة أحمد بن واضح اليعقوبي المتوفى سنة 284هـ في مقدمة كتابه : (فتوح البلدان) عن منهجه في التأليف فقال : "إني عنيت في عنفوان شبابي وعند احتيال سني وحدة ذهني بعلم أخبار البلدان ومسافة ما بين كل بلد وبلد لأني سافرت حديث السن واتصلت أسفاري ودام تغربي فكنت متى لقيت رجلا من تلك البلدان سألته عن وطنه ومصره، فإذا ذكر لي محل داره وموضع قراره سألته عن بلده… وزرعه ما هو وساكنيه من هم حتى أسأل عن لباسهم ودياناتهم ثم أثبت كل ما يخبرني به من أثق بصدقه"[21]. ثم استمر في عرض ما يخالج ذهنه على الخبراء العارفين بأحوال البلد، ومنها فتح الأرض وكيف تم ومن فتحها وما هو مبلغ خراجها. وأخيرا اعترف بأن الرحالة الباحث لا يستطيع أن يلم إلماما شموليا بعلم تقويم البلدان. ولخطورة الموضوع فقد عاب الرحالون على الكتاب القاعدين في عقر دارهم إقبالهم على التأليف في الأدب الجغرافي معتمدين في عملهم على روايات المسافرين ونقول الوراقين وسؤال الغرباء فتصدوا لهذه الفئة من المؤلفين المنافسين لهم. فهم يرون أن التأليف الجاد عن الأقاليم والممالك والمسالك هي ثمرة الأسفار وما واكبها من أبحاث وليست جمعا من صحف الوراقين أو سماعا من أفواه الإخباريين وذلك حفاظا على مصداقية العلم واجتناب الوقوع في الأخطاء وتضييقا على أولئك الذين يروجون بضاعتهم الإخبارية عن البلدان لدى فئة من الأدباء وكتاب الدواوين. ولعل بعض الرحالين عبروا عن آرائهم في هذا الموضوع ومنهم الرحالة المؤرخ أبو الحسن علي المسعودي المتوفى سنة 346 هـ، فهو يدعو إلى الرحلة قبل التأليف في الأدب الجغرافي وقال في كتابه : (مروج الذهب ومعادن الجوهر) : "ليس من لزم جهات وطنه وقنع بما نمي إليه من إقليمه كمن قسم عمره على قطع الأقطار ووزع أيامه بين تقاذف الأسفار واستخراج كل دفين من معدنه وإنارة كل نفيس من مكمنه…"[22]. ولم يكن الجاحظ المشهور بموسوعيته الأدبية ليسلم من نقده لأنه كتب في علم البلدان بدون أن تكون له رحلة، فوقع في أخطاء عدها عليه المسعودي حتى وصفه بحاطب ليل، فقال عنه : "وقد زعم عمرو بن بحر الجاحظ أن نهر مهران الذي هو نهر السند من نيل مصر ويستدل على أنه من النيل بوجود التماسيح فيه، فلست أدري كيف وقع له هذا الدليل، وذكر ذلك في كتابه : (الأمصار وعجائب البلدان)، وهو كتاب في غاية الغثاثة لأن الرجل لم يسلك البحر ولا أكثر الاسفار ولا تقرى المسالك وإنما هو كحاطب ليل ينقل من الوراقين"[23]. وهناك رحالة جغرافي آخر هو أبو عبد الله المقدسي البشاري من أهل أواخر القرن الرابع هـ، وهو مؤلف كتاب : (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم). فهذا الرحالة عاب بدوره على أبي عبد الله الجيهاني وزير نصر الثاني الساماني الذي جمع مؤلفا في علم البلدان دون أن يسافر لمعاينتها، وإنما أخذ معلوماته من الأفاقيين فقال عنه : "جمع الغرباء فسألهم عن الممالك ودخلها وكيف المسالك إليها"، وهو في نظره : " ذكر منازل مهجورة ولم يفصل الكور ولا رتب الأجناد، ولا وصف المدن، ولا استوعب ذكرها"[24]. ويرى أن المنهج السليم في كتابة الرحلة هو المنهج الذي اتبعه وأوضحه في مقدمته وهو قوله : "وكل من سبقنا إلى هذا العلم لم يسلك الطريق التي قصدتها ولا طلب التي أردتها، وقد اجتهدنا في أن لا نذكر شيئا قد سطروه، ولا نشرح أمرا قد أوردوه، إلا عند الضرورة لئلا نبخس حقوقهم، ولا نسرق من تصانيفهم، مع أنه لا يعرف فضل كتابنا هذا إلا من نظر في كتبهم أو دوخ البلدان"[25]. فالمقدسي خبير بدور الرحالين في التعامل مع الظواهر الحضارية والطبيعية ويتميز فيها بالكاتب المحترف المتشبث بالمنهج العلمي في تأليف الرحلة، فهو مطلع على كتب زملائه المتقدمين، ورافض للسرقة الأدبية الشائعة في صفوف الأدباء، وهو لا يقبل الحشو وتكرار المعلومات السابقة، وهو حريص على التجديد في تدوينها، ولأ جل تحقيق أهدافه أرغم نفسه على التأقلم مع الناس وانتحال مختلف الصفات والمهن خلال أسفاره وحسب الأحوال، وفي معرض آخر يقول : "اعلم أن جماعة من أهل العلم ومن الوزراء قد صنعوا في هذا الباب وإن كانت مختلفة غير أن أكثرها بل كلها سماع، ونحن فلم يبق إقليم إلا وقد دخلناه، وأقل سبب إلا وقد عرفناه، وما تركنا ـ مع ذلك ـ البحث والسؤال والنظر في الغيب..."[26]. ويؤكد أنه اعتمد في تأليفه على المعاينة والسماع من الثقاة، والأخذ من المصادر الصحيحة في هذا الاختصاص، والدخول إلى المكتبات الملكية للبحث والتنقيب. وفي ذلك يقول : "وما بقيت خزانة ملك إلا وقد لازمتها، ولا تصانيف فرقة إلا تصفحتها، ولا مذاهب قوم إلا وقد عرفتها، ولا اأهل زهد إلا وقد خالطتهم..."[27]. فالرجل جمع بين سعة معارفه واطلاعه، وبين الجرأة والمغامرة والفطنة، مع الاستعداد لكل حالة. وهذه الصفات النادرة في غيره تكمن وراء تداعيات أسفاره واجتهاده في البحث. ولعل اهتمام الرحالين بتقويم البلدان هو استجابة لتكوينهم وتمرسهم بالأسفار وانتشار كتب الرحلات في الأوساط العلمية والشعبية ومكتبات الأمراء. واذا كان هذا حال الأدب الجغرافي بالمشرق، فإن الأندلسيين واكبوا هذا التطور فكانت لهم أسفار ورحلات وتأثيرات ثقافية[28]. وبالنسبة للمغرب، يعتبر الشريف الإدريسي السبتي المتوفى سنة 560 هـ من أشهر الرحالين الباحثين سواء بمؤلفاته أو خرائطه، ومن مصداقيته العلمية أنه ربط إنجازاته الجغرافية بتشجيع الملك النورماندي روجر الثاني الذي كان ولوعا بمعرفة الأقاليم والمسالك والممالك فجعل صقيلة مهجرا للعقول وفي طليعتهم الشريف الإدريسي الذي أثنى على هذا الملك العالم وتحدث عنه قائلا : "وأحب أن يعرف كيفيات بلاده حقيقة، ويقتلها يقينا وخبرة، ويعلم حدودها ومسالكها برا وبحرا، وفي أي إقليم هي". ثم انتقل إلى جرد للكتب المؤلفة في الأدب الجغرافي وذكر أسماء أصحابها ومنهم أبو الحسن المسعودي وأبو عبد الله الجيهاني وأبو عبد الله المقدسي وأحمد اليعقوبي وابن حوقل وغيرهم، وكانت مكتبة الإمبراطور النورماندي زاخرة بالمصنفات في مختلف فروع المعرفة، وفي متناول الباحثين، وكان صاحبها حريصا على إزالة الغموض والالتباس والتقصير عن كتب الجغرافية التي بين يديه فجمع الخبراء بهذا الشأن وأوكل إليهم مهام التصحيح والتحقيق، وفاء للاجتهاد في البحث العلمي، فمكثوا في القيام بهذه المسؤولية خمس عشرة سنة. فقال في ذلك : "بعث إلى سائر بلاده فأحضر العارفين بها المتجولين فيها فسألهم عنها بواسطة جمعا وإفرادا، فما اتفق فيه قولهم وصح في جمعه نقلهم أثبته وأبقاه، وما اختلفوا فيه أرجأه اوألغاه، وأقام على ذلك نحو خمس عشرة سنة لا يخلي نفسه في كل وقت من النظر في هذا الفن والكشف عن حقيقته إلى أن تم له فيه ما يريده..."[29]. فرحلة الكتاب أو ترحيله عملية انتقائية حسب الزمان والمكان والمضمون والهدف، ولها سند في البحث العلمي، وتعتبر عاملا مؤثرا في الموازنات العلمية، ومفتاحا للسياق التاريخي في الأخذ والعطاء ومعرفة المجتهد من المقلد؛ فالمؤلفات التي دخلت مكتبة روجير الثاني مثال حي للآثار العلمية المنتشرة بين البلدان، و شاهد تراثي على احتضان الغرب المسيحي لفرع من الثقافة العربية الاسلامية. واذا كان الغرب الإسلامي قد عرف العديد من الرحلات والرحالين فإن المجتهدين هم أقل عددا وكل واحد منهم يتميز بإبداعه ومنهجه وأسلوبه وجهة ارتحاله. فالرحالة ابن جبير له المبادرة الأولى في كتابة الرحلة الحجية بطريقة ممنهجة، غير أن ابن رشد السبتي خرج بها عن النهج الجبري وحولها إلى ديوان معرفة فامتزجت الرحلة بالفهرسة. وأما محمد ابن بطوطة فهو رائد كتابة الرحلة العامة، ومرجع لأحداث تاريخية عاشها، وقد لفت إليه أنظار الباحثين القدامى والمحدثين. وبعده بحوالي قرنين انتعشت الرحلة من جديد على يد الحسن الوزان الفاسي الدار والغرناطي المولد والأصل والمتوفى بتونس حوالي عام 957 هـ. فهو مجدد فن الرحلة الموسومة بالظواهر الجغرافية. وهو صاحب منهج علمي بعيد عن الحشو والخرافات والنقول[30]. وكتابه (وصف إفريقيا) يدل على وضوح الرؤيا في كتابة رحلاته المركزة على البيئتين الطبيعية والبشرية ليقدم إلى القارئ معطيات جغرافية وتاريخية واجتماعية وأنتروبولوجية، متقصيا معلوماته بالمشاهدة والسماع والتواصل مع الآخرين حتى أن بعض المستشرقين رأى في تأليفه تأثره بمناهج الباحثين الأوروبيين[31]. لقد كان الحسن الوزان رحالة مجددا ومنفتحا على تداخل الحضارات وتاريخ شمال إفريقيا، وكان عازما على زيارة عدة بلدان لولا سقوطه أسيرا في يد قرصان مالطا قرب جزيرة جربة التونسية سنة 926 هـ، وشاء قدره أن قدموه إلى البابا يوحنا الثاني عشر الذي أعتقه وعمده حينما لمس فيه الكفاءة العلمية، وقيل بأنه عاد إلى الإسلام واسترجع هويته بعد أن غادر روما للاستقرار بتونس[32]. هذا الرحالة الذي جمع بين تحصيل العلوم والتجارة استطاع أن ينعش فن الرحلة بعد ركود دام قرابة قرنين من الزمن. ويبدو أن ممارسته للتجارة مع عمه وتنقله بين المراكز التجارية المغاربية والسودانية الغربية، بالإضافة إلى تواصله الفعال مع الزبناء وأعلام الأقاليم وعلاقاته المخزنية مع الأمراء الوطاسيين والأشراف السعديين سهلت عليه التنقل والتعرف على مختلف الشرائح الاجتماعية بالمدن والبوادي والوقوف على نمط عيشها وأنواع صناعاتها ومدى تمدنها، فاستوعب ظواهر أسفاره وأحسن توظيفها في مؤلفه : (وصف إفريقيا)، فكان اجتهاده مصاحبا للرحلة المنفتحة على مجموعة من العلوم الانسانية والآثار والاقتصاد[33]؛ فقرب إلى قرائه الأطراف الأخرى في مختلف وجوه ثقافتها وبيئتها ومعالمها وآثارها الأصيلة او المستحدثة، فنال تقديرهم وشعروا بأنه نهض بفن الرحلة من خلال منهجه ومختارات محاوره المتعددة الافادات فأضفى على كتابته عملية متطورة نابضة بالحياة ومواكبة لمسار الثقافات المتطلعة للتجديد. فنشاط الرحالين الباحثين يعكس صورة الشعوب ونهضة الدول، ولولا أمن الطرق ما تحقق حلمهم، فالطريق هي باب الرحلة المعول عليها، تنتعش بضمان الأمن وتوفير المؤونة بها، وتتعطل بانتشار المخاوف وقطاع الطرق سواء في البر أو البحر، وهذا ما جعل بعض فقهاء الأندلس يفتون بتعطيل أداء فريضة الحج في حالة انعدام سلامة الطريق[34]، وهذه الظاهرة استرعت بال المغاربة من شيوخ الزوايا والفقهاء والمؤرخين والرحالين والملوك الذين لهم الفضل في شق الطرق والسهر على تأمينها وبسط سلطتهم عليها. ويبدو أن السلطان أبا الحسن المريني أول من وضع الرُتَــب على الطريق وهو مبلغ مالي يؤديه المسافر عند المنزلة(النزالة) مقابل المحافظة على سلامته وتوفير التغذية له والعلف لدابته[35]. غير أنه في عهد ابنه السلطـــان عبد العزيــز الأول أصبـــحت الرُّتَب مجرد ضريبة مفروضة على المسافرين بدون أن يقدم لهم الحراس أي خدمة، فأثارت هذه النازلة قلق الفقيه ابن عباد الرندى الفاسي، فكاتب السلطان طالبا منه رفع هذه الإتاوة التي ليس لها سند شرعي ولا وضعي لعدم وفاء المسؤولين بقبضها بالشروط التي قامت عليها، فقال في رسالته : "وقد كنت طلبت منكم في آخر كتاب كتبته لكم أن تزيلوا مظالم الرتب التي أخذت بطريق المسافرين وأخبرناكم بما شاهدنا فيها من المفاسد المشينة لحسن دولتكم، والمكدرة لصفاء حالكم، فلم تسعفوا طلبنا وشاء الله بقاءها، وأنا الآن أجدد الرغبة إليكم في ذلك والإخبار بحالها"[36]. وأما في العصر السعدي فإن المؤرخ أحمد بن القاضي الذي سبق له أن ذاق مرارة الأسر أثناء رحلته، قدم وصفا إيجابيا لحالة الطرق بالمغرب في عهد السلطان أحمد المنصور الذهبي ضمن كتابه : (المنتقى المقصور على مآثر مولانا المنصور) جاء فيه قوله : "اعلم أن مخدومنا أولى ما صرفت إليه همته تمهيد الطرق على المسافرين بمنازل وخيام، أمر بسكناها على الطريق بين المنزلة والمنزلة ما يقرب من أربعة وعشرين ميلا، يسكنها أهل البادية، فقد أجرى لهم على ذلك من قطاع الأرض ما يكفيهم ثوابا لهم على سكناهم هناك، وأمرهم ببيع الشعير والطعام واللحم والعسل وغير ذلك مما يحتاج اليه المسافر، وليست بلاده كبلاد المشرق التي لا يقدر أحد أن يسافر فيها في البر إلا مع قافلة عظيمة محتوية على آلاف من الناس الحاملين للأسلحة وقد يعرض من العرب من يقاومهم..."[37]. ويبدو أن جانب المغامرة بالنفس والنفيس أثناء السفر في القرون الماضية كان يضفي على الرحالين العائدين بسلام صفة التقدير والاعتبار والشجاعة[38]، وبعودتهم واستخلاص كتابة مذكراتهم تكشف لنا عطاءاتهم ومناهجهم ثلاث توجهات في تدوين الرحلة وهي[39] : التوجه الأول، تمثل في مصاحبة الرحلة للبحث الجغرافي من لدن فئة عشقت الأسفار التي قادتها الى الرؤية الجغرافية وأخرجتها من الحس الجغرافي الفطري إلى مرحلة الدراسة العلمية والميدانية بغية تحقيق أهداف معينة في مجال البيئة الطبيعية والبشرية، ومن هذا المنطلق كان الرحالة يدون مذكراته وفقا لاهتماماته بعلم تقويم البلدان وبذلك يكون الخط الحقيقي للجغرافيا الوصفية أو الأدب الجغرافي هو خط المسالك والممالك، وهذه الدراسة مبنية على المعاينة ومساءلة الخبراء والثقاة من أهل البلد لضبط المعلومات أو إزالة أي التباس حول الافادات. والتوجه الثاني، ويمثله رحالة عشق السفر والتجوال في الأرض إلى حد الاحتراف، فاستهوته الحضارة الانسانية، فتعرف على المجتمعات البشرية المختلفة في عاداتها وألوانها وألسنتها وثقافتها ودياناتها وأسلوب عيشها، ولم تكن المسالك بالنسبة إليه إلا ممرا عابرا وظاهرة استئناس، و من هذا التصور سجل مذكراته المعروفة بأدب الرحلة، مع العلم أن لفظة أدب المضافة إلى الرحلة هي مصطلح حديث وتميزت كتابتها بالاهتمام بالإنسان وقضاياه وحضارته وظهرت فيها مواقفه الشخصية والتعبير عن هويته. وأما التوجه الثالث، فهو بدوره يشمل رحالين جالوا البلدان وكتبوا مذكراتهم إلا أنهم لم يوظفوا اجتهادهم في خدمة الحركة العلمية التي طبعت التوجهين السابقين لأن أصحابه اختاروا نشر أدب أسطوري أو ما يعرف بكتب العجائب والغرائب سواء منها البرية أو البحرية، فطبعوا تآليفهم بالمتعة والتسلية وحكايات السهر إرضاء لشريحة معينة من المجتمع التي تجد في الفكاهة والخوارق والفرجة تمليا وراحة للنفس، وهذا الصنف من الرحلات قليل، لإعراض الرحالين العلماء عن التطرق إليه في كتابتهم المتميزة بالبحث الجغرافي والتواصل والانفتاح على الآخرين. فكانوا رسل فكر وحضارة وسلام وتربية وإرشاد. وللمغاربة الشهرة والامتياز في هذا التراث الذي أقبل عليه الباحثون في العقود الأخيرة من القرن العشرين وأخرجوه من رفوف المكتبات العامة والخاصة بغية التحقيق والدراسة وتعميم الفائدة. |
الجزء | 2007 |
العدد | 87 |
المجلد | 9 |
مؤشر المكان | 64 ص |
العنوان | تاريخ الادخال |
---|